الأربعاء، 2 مارس 2016

كيف يتغلب الڤيروس HIV على الجهاز المناعي


كيف يتغلب الڤيروس HIV على الجهاز المناعي
نظرية منطقية تفترض أن الانهيار المناعي المؤدي إلى الإيدز ينجم
عن تطورات مستمرة وخطيرة للڤيروس HIV في جسم المصاب.



يبدو أن التفاعل بين ڤيروس عوز المناعة البشري (HIV) وبين الجهاز المناعي أكثر ديناميكية مما يتصور معظم العلماء. فقد تبين من أبحاث أُجريت مؤخرا، أن الڤيروس HIV يتنسّخ replicates بسرعة هائلة فيدمر في كل يوم عددا كبيرا من خلايا الجهاز المناعي. غير أن هذا التكاثر الڤيروسي يواجَه عادة ـ وعلى مدى سنوات عديدة ـ باستجابة دفاعية شديدة تمنع الڤيروس من التكاثر بمعدل يتجاوز حدود السيطرة. ولكن هذا التوازن يختل في آخر المطاف لصالح الڤيروس HIV، الأمر الذي يؤدي إلى القصور المناعي الوخيم الذي يميز الصورة المَرَضية المكتملة لحالة الإيدز AIDS.

لقد توصلنا إلى فرضية تطورية evolutionary hypothesis يمكن أن تفسر كيفية تخلص الڤيروس من سيطرة المناعة في نهاية الأمر، وتفسر أيضا فترة الكُمون (الهجوع) الطويلة بين حدوث العدوى (الخَمَج) بالڤيروس وظهور الإيدز، وتوضح أسباب التفاوت البيّن في مدة الكُمون بين مريض وآخر؛ إذ تتقدم حالة معظم المصابين بالعدوى باتجاه مرحلة الإيدز خلال نحو عشر سنوات، لكن بعض حالات الإيدز يتم تشخيصها خلال عامين بعد العدوى. كما أن البعض الآخر لا يصل إلى مرحلة الإيدز إلا بعد مضي خمسة عشر عاما أو أكثر.

إننا نعتقد أن الاستجابة المناعية القوية التي تمكّن الكثيرين من المرضى من البقاء أصحاء سنوات عديدة، تنهار في النهاية بفعل الطفرة mutation المستمرة للڤيروس. وكما سنبين لاحقا، فإن أشكالا ڤيروسية viral variantsجديدة يمكن أن تظهر ويكون باستطاعتها تجنب القوى الدفاعية للجسم بطريقة ما. وفي رأينا، إن تراكم العديد من هذه الأشكال الڤيروسية يمكن أن يُربك الجهاز المناعي بدرجة لا يستطيع معها مقاومة الڤيروس على نحو فعال.

ولفهم كيفية وصولنا إلى هذه الفرضية التي أخذت تدعمها البيانات (المعطيات) السريرية، من المفيد أن نعرض بإيجاز كيف يقضي الجهاز المناعي على الڤيروسات بشكل عام، وكيف يتعامل مع الڤيروس HIV على وجه الخصوص. فعندما يدخل أي ڤيروس إلى الجسم ويغزو خلاياه، تبدأ القوى الدفاعية بشن هجوم متعدد الوسائط على أهداف محددة جيدا. فتلتهم البلاعم macrophages ـ والخلايا الأخرى ذات الصلة ـ بعض الجسيمات الڤيروسية الحرة وتفتّتها، ثم تقوم هذه الخلايا بتثبيت بعض الشدف البروتينية (أي الپپتيدات peptides) في أخاديد فوق بروتينات تعرف باسم مستضدات الخلايا البيضاء البشرية (human leukocyte antigens (HLAs. وتُبرِز الخلايا بعد ذلك هذه المركبات (المعقّدات) complexes المناعية على سطوحها ليتعرفها نوع من خلايا الدم البيضاء يُسمى اللمفاويات التائية المساعدة helper T lymphocytes.

الجسم يصدّ الهجوم
تحمِل كل من اللمفاويات التائية المساعدة مستقبِلات receptors قادرة على تعرّفِ پپتيدٍ سطحي مفرد يسمى المُعَيِّن المستضدي (الحاتمة) epitope. فإذا ما صادفت المعيِّن المستضدي المقابل لها على سطح إحدى البلاعم أو الخلايا المماثلة، فإنها ترتبط بالپپتيد وتأخذ في الانقسام وإفراز بروتينات صغيرة. وتساعد هذه البروتينات على تحفيز وتنشيط تكاثر عناصر أخرى في الجهاز المناعي وبخاصة اللمفاويات التائية السامة للخلاياcytotoxic أو القاتلة killer واللمفاويات البائية B lymphocytes.

وفي الظروف المناسبة تهاجم الخلايا التائية القاتلة الخلايا المصابة بالڤيروس هجوما مباشرا. وعلى غرار البلاعم، تقوم الخلايا المصابة بتفتيت بعض الجسيمات الڤيروسية وربْط شُدف معينة منها بجزيئات المستضداتHLA، وبالتالي إبراز هذه المركّبات المناعية على سطوح الخلايا. فإذا ما تعرفت لمفاويةٌ تائية سامة للخلايا بوساطة مستقبِلاتها أحدَ المعيِّنات (المحددات) المستضدية على سطح خلية مصابة، فإنها ترتبط به وتدمر هذه الخلية قبل إنتاج المزيد من الجسيمات الڤيروسية. أما اللمفاويات البائية المنشَّطة فإنها تفرز أضدادا antibodies تتعرف الپپتيدات النوعية على السطوح الڤيروسية. وتميز الأضدادُ الجسيماتِ الڤيروسية الحرة التي لم تتشظَّ (تتفتت) داخل الخلايا بعد، تمهيدا لتدميرها.

ومن المعتقد أن كل هذه الاستجابات المناعية تشارك في الدفاع ضد الڤيروس HIV؛ إذ يغزو الڤيروس في المرحلة الأولية (البدئية) من العدوى اللمفاويات التائية المساعدة والبلاعم. كما أنه يتنسَّخ على نحو غير مكبوح مدة من الزمن. ومع تزايد كمية الڤيروسات ينخفض تعداد الخلايا المساعدة؛ كما تموت البلاعم أيضا، إلا أن تأثير الڤيروس عليها لم يُدرس دراسة كافية. وتهلك الخلايا التائية المصابة؛ إذ تنطلق عبر غشائها الخلوي آلاف من الجسيمات الڤيروسية الجديدة. لكن اللمفاويات التائية السامة للخلايا واللمفاويات البائية سرعان ما تبدأ بتوجيه استجابة دفاعية قوية تؤدي إلى قتل العديد من الخلايا المصابة والجسيمات الڤيروسية. وتحد هذه الاستجابات من تكاثر الڤيروس وتهييء للجسم فرصة ليعوض مؤقتا رصيده من الخلايا المساعدة حتى تكاد تبلغ مستواها الطبيعي، وعلى الرغم من ذلك فإن تواجد الڤيروس في الجسم يستمر. وفي هذه المرحلة المبكِّرة التي قد تستمر بضعة أسابيع، يُبْدي نحو 30% من المصابين بالعدوى (المخموجين) بعضَ الأعراض، غالبا على شكل حمى قد تكون مصحوبةً بطفح جلدي وتورم في الغدد اللمفاوية. وبعد ذلك يدخل المصابون بالعدوى، ومن بينهم هؤلاء، مرحلة طويلة خالية من الأعراض.

تتبرعم جسيمات الڤيروس HIV المسبب للإيدز (الكريات الزرقاء)، خارجة من إحدى خلايا الدم البيضاء المصابة بالعدوى (المخموجة) قبل أن تتحرك لتصيب خلايا أخرى. ويحدّ الجهاز المناعي في البداية من هذا الانتشار إلا أن الڤيروس يتغلب في النهاية.

خلال هذه المرحلة الثانية، يواصل الجهاز المناعي عمله بشكل جيد، ويكون تركيز الڤيروس القابل للقياس خلالها منخفضا نسبيا. ومع ذلك يرتفع مستوى الڤيروس تدريجيا بالتوازي مع انخفاض تعداد اللمفاويات المساعدة. وتتزايد البيّنات على أن فقدان الخلايا المساعدة إنما هو نتيجة تدميرها من قِبَل الڤيروس واللمفاويات التائية السامة للخلايا، وليس بسبب تدني قدرة الجسم على توليد خلايا مساعدة جديدة. ومن المتناقضات المحزنة أن الخلايا القاتلة اللازمة للسيطرة على عدوى الڤيروس HIV، تدمر كذلك الخلايا التائية المساعدة التي تحتاج إليها لتؤدي عملها كما ينبغي.

ويُعتقد عموما أن المرضى يَعبُرون عتبة الإيدز عندما يبلغ تعداد الخلايا المساعدة لديهم أقل من 200 خلية في الميكرولتر من الدم، علما بأن تعداد هذه الخلايا لدى الأصحاء يبلغ 1000 خلية في الميكرولتر. وفي هذه المرحلة يحدث ارتفاع حاد في مستوى الڤيروس، في حين تنحدر مستوياتُ فعالية الجهاز المناعي نحو الصفر. وهذا الفقدان لفعالية الجهاز المناعي هو الذي يتيح عادة لبعض الكائنات المكروية (الصغرية) الحميدة benignmicroorganisms (ولاسيما الأوالي protozoa والفطريات fungi) إحداث أمراض مُهدِّدة لحياة المصابين بالإيدز. وحالما يصل المرضى إلى مرحلة الإيدز فإنهم نادرا ما يعيشون أكثر من عامين بعد ذلك.

إن استمرار وجود رد فعل مناعي قوي على الرغم من الهجمة المتصلة من الڤيروس HIV يثير التساؤل حول أسباب عجز الجهاز المناعي عن القضاء نهائيا على هذا الڤيروس في معظم الحالات، إن لم يكن في كلها. ومنذ عدة سنوات، دفعت ملامح الڤيروس المختلفة أحدنا (نوڤاك) وزملاءه (في قسم علم الحيوان بجامعة أكسفورد) إلى الاعتقاد بأن الجواب يكمن في قدرة الڤيروس على التطور داخل جسم الإنسان.

الڤيروس HIV في مواجهة الجهاز المناعي
تبدأ المعركة بين الڤيروس HIV وبين الجهاز المناعي بشكل جدي عندما يتنسّخ (يتكاثر) الڤيروس داخل الخلايا المصابة وتخرج الجسيمات الڤيروسية الجديدة من هذه الخلايا (المراحل1-5 في الجانب الأيسر). ويؤدي ارتفاع مستويات الڤيروس في الجسم إلى تحريض استجابات من عناصر متعددة في الجهاز المناعي (الجانب الأيمن). وتستطيع هذه الاستجابات تدمير الجسيمات الڤيروسية الحرة (1-5) فضلا عن الخلايا المصابة بالڤيروس (5a-4a). لكن هذه الاستجابات تعجز عموما عن التخلص نهائيا من الڤيروس HIV. ويعود ذلك إلى أن الڤيروس يصيب التائيات المساعدة والبلاعم ويقضي عليها، ولهذه الخلايا دور فاعل ورئيسي في الدفاع ضد الڤيروس HIV.

النظرية التطورية تستبق الأحداث
تقول النظرية التطورية إن الطفرة العفوية chance mutation في المادة الوراثية لكائن حي تولّد أحيانا خُلَّة (صفة) trait تزيد من قدرة هذا الكائن على البقاء. ويوضح هذا أن الكائن المعني يكون أكثر قدرة من نظرائه على تخطي عقبات البقاء وأكفأ في التكاثر. ومع مرور الوقت يسود النسل الذي يملك هذه الخُلة في الجمهرةpopulation الڤيروسية، متفوقا على غيره من الڤيروسات، على الأقل لحين اكتساب ڤيروس آخر خُلة أكثر قدرة على التكيف أو لحين تغير الظروف المحيطة بشكل يُحبِّذُ خصائص أخرى. وهكذا، فإن ضغوط البيئة هي التي تحدد الخلال المختارة للانتشار ضمن جمهرة ما.

وعندما تأمّل نوڤاك ومساعدوه دورة حياة الڤيروس HIV، بدا لهم واضحا أنه قادر على التطور متجنبا الضغوط التي يواجهها، أي ضغوط الجهاز المناعي للعائل (الثوي). فعلى سبيل المثال لوحظ أن الهيكل الجيني (الوراثي) للڤيروس يتغير بشكل دائم؛ حيث يؤدي معدل الطفرة العالي إلى زيادة احتمالات حدوث تغيرات جينية من شأنها إيجاد خُلة مواتية للبقاء. وتتأتى هذه القدرة الكبيرة على التغير الجيني من طبيعة إنزيم الانتساخ المعكوس reversetranscriptase في الڤيروس. ففي داخل الخلية، يستخدم الڤيروس هذا الإنزيم لنسخ جينومه (مجينه) الرناويRNA genome إلى دنا ثنائي الجديلة (الشريط) double strand DNA. ويُولَج هذا الدنا داخل صبغيchromosome من صبغيات العائل، وهناك يقود إنتاجَ المزيد من الرنا الڤيروسي والبروتينات الڤيروسية. وتتجمع هذه العناصر بدورها لتشكل جُسيمات ڤيروسية جديدة يمكنها الخروج من الخلية. ولما كان لدى إنزيم الانتساخ المعكوس استعداد للخطأ، فإن معدل الطفرة لدى الڤيروس HIV يكون مرتفعا خلال هذه العملية. ويقدّر أنه في كل مرة يحوّل الإنزيم فيها الرنا إلى دنا، فإن الدنا الجديد سيختلف عن الدنا الذي قبله في موقع واحد في المتوسط. ومن شأن هذا النمط من الطفرة أن يجعل الڤيروس HIV أكثر الڤيروسات المعروفة قدرة على التغير.

إن معدل التنسخ المرتفع للڤيروس HIV يزيد من أرجحية حدوث طفرات مواتية له. ولتوضيح مدى قدرة الڤيروس HIV على التكاثر، ينبغي أن نتأمل النتائج التي أعلنها في مطلع العام 1995 فريق بحث من جامعة ألاباما في برمنگهام بقيادة <M.G. شو>، وآخر من مركز آرون دياموند لأبحاث الإيدز في نيويورك بقيادة <D.D.هو>. فقد وجد هذان الفريقان أنه في كل يوم يتولد لدى المصاب بالعدوى، بليون جُسَيْم ڤيروسي جديد على الأقل. كما وجدوا أنه في غياب النشاط المناعي تتضاعف جمهرة الڤيروسات بمعدل مرة كل يومين. وتعني هذه الأرقام أن الڤيروسات التي توجد في المريض بعد مضي عشر سنوات على العدوى تفترق بعدة آلاف من الأجيال عن الڤيروس الأصلي. وهكذا فإن الڤيروس يمكنه خلال عشر سنوات أن يغير صورته الجينية على نحوِ ما قد يحدث في الإنسان عبر ملايين السنين.

يستغرق مسار العدوى (الخمج) بالڤيروس HIV عادة سنوات عديدة، لا يشعر المريض خلال معظمها بأي أعراض. ومما يثير الدهشة أن دفاعات الجسم ـ كما تُبينها مستويات الأضداد والتائيات القاتلة والتائيات المساعدة في الدم ـ تظل قوية خلال معظم هذه الفترة اللاأعراضية asyptomatic period، حيث تدمر كل الكمية المنتَجة من الڤيروسات تقريبا. بيد أنه عند نقطة معينة، تفقد الدفاعات المناعية سيطرتها على الڤيروس، فيتنسّخ بجنون ويؤدي إلى انهيار الجهاز المناعي.

سيناريو لتطور المرض
أخْذًا بعين الاعتبار القدرة الهائلة للڤيروس HIV على التطور، تصوَّر نوڤاك وزملاؤه سيناريو يفسر كيف يتجنب الڤيروس التدمير الشامل وبالتالي كيف يحدث الإيدز بعد مضي مدة طويلة في العادة. يفترض هذا السيناريو أن الطفرات المتواصلة في جينات الڤيروس تؤدي باستمرار إلى ظهور أشكال ڤيروسية جديدة تستطيع، إلى حد ما، تجنب الدفاعات المناعية في أي وقت معين. وتَظهر هذه الأشكال عندما تؤدي الطفرات الجينية إلى تغيرات في بنية الپپتيدات الڤيروسية ـ أي المعيِّنات المستضدية (الحواتم) epitopes ـ التي يتعرّفها الجهاز المناعي. ولا تؤثر هذه التغيرات ـ في كثير من الحالات ـ في الفعاليات المناعية، ولكن قد تؤدي أحيانا إلى إخفاء الپپتيد عن متناول دفاعات الجسم. فالجسيمات الڤيروسية المتأثرة تحمل عددا أقل من المعيِّنات المستضدية الظاهرة، وهكذا يتعذر على الجهاز المناعي أن يتبيّنها.

تقترح هذه النظرية أن الطفرة المؤدية إلى انخفاض درجةِ تعرفِ معيِّنٍ مستضدي ما، ستتيح للڤيروس الجديد فرصة أكبر للبقاء، على الأقل لحين اكتشاف الجهاز المناعي للپپتيد المتغير والتعامل معه. وتحد هذه الاستجابة المناعية من الحمل الڤيروسي viral load بعض الوقت؛ إذ سرعان ما تظهر «طافرات هاربة» escape mutantsأخرى تواصل مسيرة الدورة وتحول دون القضاء التام على العدوى (الخَمَج).

إن إثبات صحة هذا المخطط بالفحوص السريرية (الإكلينيكية) وحدها أمر جد عسير، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى صعوبة رصد التآثرات اللاخطية nonlinear interactions بين الڤيروس والجهاز المناعي بشكل مفصل. لذلك استعان نوڤاك بنموذج يحاكي بالحاسوب ما يطرأ من تطورات في جمهرة ڤيروسية متجانسة عندما تقع تحت ضغوط مناعية. وتصوّر أن هذا النموذج الرياضياتي لو أدى إلى الأنماط المعروفة لتطور الڤيروس HIV، فإن ذلك سيعني أن السيناريو التطوري المقترح صحيح إلى حد ما.

يتحاشى الڤيروس HIV سيطرة الجهاز المناعي عن طريق التطور. وعلى وجه الخصوص فإنه يولّد «طافرات هاربة» escape mutants ـ أي أشكالا ڤيروسية قادرة على تجنب الاستعراف المناعي immune recognition إلى حد ما. وكمثال مبسط، فإن جمهرة (جماعة) ڤيروسية حاملة لمعيّن مستضدي واحد يمكن استعرافه (الأخضر في 1 و 2) تحدث بها طفرات متتالية في هذا المعيِّن المستضدي (3-5). ويستطيع الجهاز المناعي ـ الممثل هنا باللمفاويات البائية المنتجة للأضداد ـ مسايرة هذه التطورات مدة من الزمن، إلا أن ظهور العديد من الأشكال الڤيروسية الجديدة يقوّض، على ما يبدو، قدرة الجسم على مغالبة الڤيروس.

لقد عكست المعادلات الأساسية في هذا النموذج الملامح التي رأى نوڤاك وزملاؤه أنها مهمة في مسار العدوى بالڤيروس: فالڤيروس يثبط النشاط المناعي أساسا بتسببه في موت الخلايا التائية المساعدة، وكلما ارتفعت مستويات الڤيروس مات عدد أكبر من هذه الخلايا. كما أن الڤيروس يُنتِج باستمرار «طافرات هاربة» تستطيع تجنب رد الفعل المناعي المضاد إلى حد ما، ومن ثم تنتشر هذه الطافرات في الجمهرة الڤيروسية. وبعد فترة، ينجح الجهاز المناعي في تعرف هذه الطافرات مما يؤدي إلى تقلص عددها. إضافة إلى ذلك فرّق هذا النموذج بين نوعين من الاستجابات المناعية: استجابات تتعرف المعينات المستضدية السهلة التطفر، وأخرى تتعرف المعيِّنات المستضدية المحفوظة (التي تظهر دائما بشكل متماثل على جميع الجسيمات الڤيروسية في الجسم، لأن الڤيروس لا يتحمل فقدانها أو تغيرها).

لقد أمكن بالمحاكاة إنتاج فترة الكُمون الطويلة نفسها التي تفصل بين وقوع العدوى بالڤيروس HIV وبين الارتفاع النهائي الحاد في مستويات الڤيروس في الجسم. كما أمكن تفسير أسباب عدم استمرارية إنتاج الطافرات الهاربة وكبتها، بل وأسباب انتهائها بتنسخٍ (تكاثر) ڤيروسي خارج السيطرة وفقدانٍ كامل تقريبا للخلايا التائية المساعدة وتطور المرض إلى حالة الإيدز.

لقد بيّن هذا النموذج بصفة خاصة، أن الجهاز المناعي كثيرا ما يستطيع الدفاع بفاعلية ضد أشكال ڤيروسية متعددة في الوقت نفسه. غير أنه في مرحلة معينة، عادة بعد سنوات عديدة، يتواجد عدد كبير جدا من الأشكال المختلفة للڤيروس HIV، وعندها يعجز الجهاز المناعي عن السيطرة على الڤيروس. ونحن نسمي هذه النقطة الفاصلة «عتبة التغاير» diversity threshold، ويمكن أن تختلف من شخص إلى آخر. فمثلا، إذا كان الجهاز المناعي ضعيفا نسبيا من البداية، فقد يكفي عدد قليل من الأشكال الڤيروسية للتغلب على دفاعات الجسم.

وثمة تفسير بدهي لقصور فعالية الجهاز المناعي الناجم عن وجود أشكال متعددة للڤيروس HIV. يتصور هذا التفسير أن المعركة بين الڤيروس وبين دفاعات الجسم أشبه ما تكون بالتصادم بين جيشين. وكل فرد من جيش الڤيروس HIV هو مقاتل عمومي التوجه، أي يستطيع مهاجمة أي خلية معادية يواجهها؛ في حين أن لأفراد الجيش المناعي توجها متخصصا، حيث يستطيع كل منهم تعرف أحد جنود جيش الڤيروس HIV فقط إذا كان هذا الجندي يلوّح براية من لون معيّن.

ولو افترضنا أن كل فرد من أفراد جيش المناعة المتخصصين يتعرف العَلَم نفسه وكان كل جنود جيش الڤيروسHIV يحملون هذا العلم، لكانت حينئذ قوى الجيشين متعادلة. والآن لنفترض أن جيش الڤيروس HIV يتكون من ثلاث فرق كل منها يحمل علَما مختلفا، وبالتالي ينقسم جنود المناعة المتخصصون إلى ثلاث مجموعات كل منها قادر على تعرف علم معين. في ظروف كهذه، لا شك أن جيش الجهاز المناعي سيكون في موقف حرج. فكل متخصص في الجهاز المناعي سيكون قادرا على استعراف ومهاجمة واحد فقط من كل ثلاثةٍ من أفراد العدو الذين يواجههم ـ وهو الذي يحمل العلَم الموافق؛ في حين سيتابع جنود جيش الڤيروس HIV في الوقت نفسه اقتناص كل جندي مناعي متخصص يصادفونه، وهكذا يكسبون المعركة حتما في النهاية.

التنبؤ بسير المرض
إضافة إلى إعطائنا مفهوم «عتبة التغاير»، قدّم هذا النموذج تفسيرا محتملا لأسباب تطور الحالة نحو مرحلة الإيدز عند بعض المرضى بشكل أسرع مما عند بعضهم الآخر. فإذا كانت الاستجابة المناعية الأولية قوية ضد المعيِّنات المستضدية المحفوظة conserved، فإن فعالية الاستجابة المضادة للڤيروس HIV لن تتأثر كثيرا بالطفرات التي تَحْدُث في المعينات المستضدية الأخرى. (حيث سيُواصل كثير من العناصر الفاعلة في الجهاز المناعي تعرف كل خلية مصابة أو جسم ڤيروسي تصادفه.) وهكذا يستطيع الجسم السيطرة على الڤيروس باستمرار، على الرغم من المستوى العالي للتغاير الڤيروسي viral diversity. وفي مثل هؤلاء الأفراد يكون التطور نحو الإيدز بطيئا (أو قد لا يحدث أبدا).

أما إذا كانت الاستجابة المناعية للمعيِّنات المستضدية المحفوظة غير قوية بدرجة تضمن السيطرة على الجمهرة الڤيروسية، إنما يستطيع تعاضد الاستجابات المناعية ضد المعينات المستضدية المحفوظة والمتغيرة السيطرة على الڤيروس مبدئيا، عندها تستطيع القوى الدفاعية مواجهة الموقف مدة طويلة. لكن في النهاية ستنهار الاستجابات الدفاعية ضد المعينات المستضدية المتغيرة بسبب ظهور الطافرات الهاربة وزيادة التغاير الڤيروسي. وفي هذه الحالة سترتفع مستويات الڤيروس تدريجيا في حين تتناقص فعالية الاستجابة للمعينات المستضدية المتغيرة. وهذا هو النمط الذي يبدو أنه يحدث عند غالبية المرضى.

وإذا ما كانت الاستجابات المناعية المتعاضدة ضد المعيِّنات المستضدية المحفوظة والمتغيرة أضعف من أن تسيطر على تنسّخ الڤيروس HIV منذ البداية، فحينئذ سيكون التطور نحو الإيدز سريعا. وفي هذه الحالة ستتكاثر الڤيروسات الأصلية من دون مقاومة تُذْكر. وهكذا لن يخضع الڤيروس لضغط مناعي مؤثر يدفعه لإنتاج طافرات قادرة على تجنب الاستكشاف (الاستعراف) المناعي immune reconnaissance. وتتقدم (تتطور) إصابة هؤلاء المرضى نحو الإيدز سريعا حتى في غياب تنوع ڤيروسي ملموس.

لقد وفر نموذج المحاكاة أيضا معلومات متعمقة حول خصائص الجمهرة الڤيروسية خلال مختلف مراحل الإصابة بالڤيروس HIV. ففي الأيام الأولى قبل أن ينشط الجهاز المناعي بدرجة كبيرة، تسود الأشكال الڤيروسية القادرة على التنسّخ بشكل أسرع من غيرها. وبالتالي، فحتى لو أصيب المريض بعدوى عدة أشكال ڤيروسية معا، فإنه بعد مدة قصيرة ستكون معظم الڤيروسات في الجسم نابعة من الشكل الأسرع في التكاثر. لذلك لا نتوقع إلا القليل من التغاير الجيني (الوراثي) في المرحلة الحادة من المرض.

إن السرعة التي ترتفع بها مستويات الڤيروس HIV (المنحنيات الخطية) عبر السنين، قد تعتمد إلى حد كبير على نوعية الاستجابة المناعية الأولية initial immune response (الأشكال الداخلية). وتقترح النماذج الحاسوبية أن الاستجابة المناعية التي تستهدف أحد المعيِّنات المستضدية المحفوظة conserved epitopes (التي توجد على سطح كل جُسَيْم ڤيروسي) تستطيع وحدها الحد من تكاثر الڤيروسات (في اليسار)، وقد يستطيع الجسم إبقاء مستويات الڤيروس منخفضة مدة غير محددة ـ حتى بعد الزوال المحتوم للاستجابة تجاه المعيّنات المستضدية السهلة التغير، وهذا النمط ليس شائعا. أما إذا كانت الاستجابات المشتركة ضعيفة (في الوسط)، فسترتفع مستويات الڤيروس بسرعة. وإذا كانت الاستجابات المشتركة قوية ولكن تعجز الاستجابة الموجهة ضد المعيّنات المستضدية المحفوظة عن السيطرة على الڤيروس (في اليمين)، عندها نشاهد الشكل النمطي البطيء الشائع من تنسخ الڤيروس. وفي هذه الحالة تبدأ مستويات الڤيروس بالارتفاع الحاد عندما تُفقَد القدرة على الاستجابة للمعينات المستضدية المتغيرة.

وعندما يصبح الجهاز المناعي أكثر نشاطا، تتزايد تعقيدات البقاء أمام الڤيروس HIV؛ إذ لا يعود كافيا أن يتنسخ الڤيروس بحرّية، وإنما عليه أيضا أن يصدّ الهجمات المناعية. وهذه هي المرحلة التي نتوقع فيها أن يؤدي هذا الضغط الانتقائي (الاصطفائي) selection pressure إلى تزايد التغاير في المعينات المستضدية التي يمكن أن يتعرفها الجهاز المناعي. وحالما ينهار الجهاز المناعي ولا يعود يشكل عقبة أمام بقاء الڤيروس، عندها سيزول الضغط المؤدي إلى حدوث التغاير. لذا من المتوقع أن نشهد لدى مرضى الإيدز سيادة الأنماط السريعة التزايد مرة أخرى وتناقص التغاير الڤيروسي.

لقد أكدت الدراسات المديدة على مجموعات صغيرة من المرضى بعض تنبؤات النموذج التجريبي. وأجرى هذه الدراسات كل من <J.A.براون> (من جامعة إدنبره) و <J.غاودسميت> ( من جامعة أمستردام) و <I.J. مولينز> (من جامعة واشنطن) و<M.S.وولينسكي> (من كلية الطب بجامعة نورث-ويستيرن). فخلال عدة سنوات، تعقّب هؤلاء تطور قطعة تنتمي لبروتين في الغلاف الخارجي للڤيروس تدعى القطعة V3. وتعتبر هذه القطعة من الأهداف الرئيسية لهجوم الأضداد antibodies، كما تتميز بالكثير من التنوع. وكما تنبأ نموذج المحاكاة بالحاسوب، فقد أظهرت هذه القطعة تماثلا في العينات الڤيروسية المأخوذة من المرضى خلال بضعة أسابيع من بداية العدوى (الخمج). وخلال السنوات اللاحقة أظهرت القطعة نفسها تنوعا ملحوظا.

محاكاة بالحاسوب computer simulation لتقصي مستويات التائيات القاتلة في مريض افتراضي hypothetical patient. في البداية (الشكل الأعلى) استجابت الخلايا التائية لجمهرة population ڤيروسية متجانسة، يحمل كل ڤيروس منها سبعة معيِّنات مستضدية قابلة للاستعراف. ومن بين هذه المعيّنات حرّض المعيّن الخامس الاستجابة الأقوى (الأصفر). وعندما ظهرت طافرة ڤيروسية تحمل نسخة معدلة غير ملحوظة من هذا المعين المستضدي (الشكل الأوسط)، تركزت الاستجابة الغالبة على معيّن مستضدي أقل تحفيزا ـ المعيّن المستضدي الثاني (الأحمر). وبعد تطفر المعيّن المستضدي الثاني (الشكل الأسفل) انحرفت الاستجابة السائدة مرة أخرى إلى المعيّن المستضدي الرابع (الأخضر)، الأقل تحفيزا من سابقيه. ويمكن أن يؤدي هذا الانحراف المتتالي إلى تدني السيطرة المناعية لدى المصابين بالعدوى.

نظرة على الخلايا القاتلة
عاملت النماذج الرياضياتية الأصلية جهاز المناعة على أنه وحدة واحدة من دون تمييز بين أنشطة الأنواع المختلفة من الخلايا. ولما كان من الواضح أن اللمفاويات التائية القاتلة تمارس ضغطا مناعيا هائلا ضد الڤيروسHIV، فقد صمّمنا مع زملائنا نماذج لتفحّص سلوك هذه الخلايا على وجه الخصوص. وأعطتنا هذه النماذج الجديدة مزيدا من المعلومات حول كيفية قضاء الڤيروس على القدرة الدفاعية للجهاز المناعي مستعملا قدرته على التغير.

ابتدأنا العمل في هذه المحاكاة مع بداية العام 1994، بعد أن تحيّر أحدنا (مك مايكل) في نتائج الأبحاث التي قام بها مع آخرين لتقصي استجابة التائيات القاتلة تجاه الڤيروس HIV عند المرضى الذين لا يُظهرون أعراضا في البدء. وتوبع المرضى في هذه الدراسات مدة خمس سنوات، وكان من بين أهداف البحث تقييم تأثير مختلف المستضدات HLA في قدرة المريض على مقاومة الڤيروس.

تلعب جزيئات المستضدات HLA دورا حيويا في عملية الاستجابة الدفاعية، لأنها هي التي تحدد أيَّ الپپتيدات الڤيروسية ستبرز على سطح الخلية ومدى وضوح موقعها على السطح. ومن المتوقع أن يختلف أي اثنين من المرضى في نوعية خلائط جزيئات المستضدات HLA التي يحملونها. وبالتالي سيختلفان في المعيِّنات المستضدية الپپتيدية البارزة على سطح الخلايا وفي قدرة الوحدات المكونة من اتحاد المستضدات HLA مع الپپتيد الڤيروسي، على جذب انتباه الجهاز المناعي. وعلى ما يبدو فإن معظم المصابين بعدوى الڤيروس يتعرفون بضعةً فقط من المعينات المستضدية المحتمل إنتاجها من بروتينات الڤيروس، وهي عادة من واحد إلى عشرة.

وتقصت هذه التجارب السريرية استجابة التائيات السامة للخلايا لأنواع عديدة من المعيّنات المستضديةepitopes تنتمي لبروتين ڤيروسي داخلي يدعى gag. واستخدم ثلاثة من المرضى النوع B27 من المستضداتHLA لعرض هذا البروتين، في حين استخدم مريضان النوع HLA-B8 لهذا الغرض. وكانت استجابة التائيات القاتلة للخلايا عند مرضى النمط B27 موجهة نحو قطعة واحدة من البروتين gag تميزت بالثبات خلال فترة الدراسة. أما عند مرضى النمط B8 فقد كانت فعالية التائيات القاتلة موجهة ضد ثلاثة أجزاء أخرى من البروتينgag. وتميزت هذه المعيِّنات المستضدية الثلاثة بالقدرة على توليد طافرات خلال فترة الدراسة، واستطاع العديد من الپپتيدات الطافرة أن ينجو من تعرّفه بوساطة التائيات القاتلة لدى العائل (الثوي). كما لوحظ وجود تفاوت كبير في القوة النسبية للاستجابات الدفاعية ضد هذه المعينات المستضدية الثلاثة أيضا.

لقد استطاعت هذه الدراسات لأول مرة تسجيل وجود ڤيروسات طافرة قادرة على تفادي التائيات القاتلة في جسم الإنسان. ومع ذلك فقد أثارت هذه الدراسات أسئلة محيّرة أيضا، وبخاصة: ما سبب تباين شدة الاستجابات المناعية ضد المعيِّنات المستضدية المتعددة؟ في معظم حالات العدوى الڤيروسية الأخرى تكون الاستجابات موجهة عادة ضد واحد أو أكثر من المعينات المستضدية وتتسم بمزيد من الثبات (الاستقرار).

لماذا تضِلُّ الخلايا القاتلة
كان الجواب عن هذا السؤال من بين دوافع فريقيْنا إلى تطوير نماذج حاسوبية لدراسة استجابات التائيات السامة للخلايا تجاه الڤيروس HIV. وافترضت هذه البرامج أن تَحطُّم الجسيمات الڤيروسية داخل الخلايا المصابة سيؤدي إلى بروز الكثير من المعيِّنات المستضدية التي تستطيع التائيات السامة للخلايا تعرّفها. كما افترضت هذه النماذج أن معظم المعينات المستضدية ستكون قادرة على الطفرة، وبالتالي إعطاء أشكال ڤيروسية جديدة تختلف في بعض معيناتها المستضدية.

أدخلت النماذج الحاسوبية طفرات عشوائية في المعينات المستضدية، ثم تتبعت نمو الأشكال الڤيروسية الجديدة، كما تتبعت جمهرة التائيات السامة للخلايا الموجهة ضد كل معيّن مستضدي. وتبين أن جمهرة الخلايا التائية التي تتعرف معينا مستضديا ما وبالتالي قدرة القتل لدى هذه الخلايا، كانت تعتمد على عدد الجسيمات الڤيروسية الحاملة لهذا المعيّن المستضدي، وأيضا على القدرة التحريضية للپپتيد. (تحضّ بعض المعيِّنات المستضدية أكثر من غيرها على تنسّخ الخلايا التائية).

التحرك للقتل: تهاجم اللمفاويات التائية القاتلة خلية سرطانية بالطريقة نفسها التي تباغت بها الخلايا المصابة بالڤيروس، فيلتصق العديد من اللمفاويات بالخلية المستهدفة، وتفرز بعضَ المواد القادرةَ على حفر ثقوب في الغشاء الخلوي.

وكانت نتائج العمل على هذه النماذج الحاسوبية ذات المعيِّنات المستضدية المتعددة mutliple معقدة جدا. وفي المحصلة تناقصت الفعالية الكلية للجهاز المناعي بشكل تدريجي مع مرور الوقت. ونجم هذا التناقص عن التأرجح نفسه في الفعالية المناعية الذي لوحظ عند المريضين اللذين أنتجا المستضدات HLA من النمط B8. وعلى ما يبدو فإن هذا التأرجح كان سببه التنافس بين جمهرات الخلايا التائية القاتلة.

ووفقا لحساباتنا، تتنافس نَسيلة clone واحدة من التائيات القاتلة في جسم المريض (جمهرة قادرة على تعرف معيّن مستضدي واحد) مع التائيات الأخرى سعيا إلى السيطرة. ولدى حدوث الاستجابة الأولية للخلايا القاتلة التي تشمل نَسائل متعددة، تتناقص الجمهرة الڤيروسية، وبالتالي تتناقص إشارات التحريض التي تتلقاها الخلايا التائية. وفي النهاية لا تُواصل النشاطَ إلا نسائلُ الخلايا التائية التي يمكنها أن تتعرف أكثر المعينات المستضدية قدرة على التحريض، وهكذا قد تسود استجاباتِ الخلايا التائية نَسيلَةٌ واحدة فقط.

ويمكن أن تكون هذه العملية مُفيدة وقد تؤدي إلى القضاء على الڤيروس لو أنه لم يتغير. ومن جهة أخرى إذا تطفر المعيِّن المستضدي المحرض للاستجابة المناعية الغالبة، فقد لا تتمكن نَسيلة الخلايا التائية المقابلة له من تعرّفه. وعندئذ ستتكاثر الجسيمات الڤيروسية الحاملة لهذا الپپتيد الجديد في خفاء يكاد يكون تاما. وأحيانا يتمكن الجهاز المناعي من تلافي ذلك وتوجيه استجابة مناعية ضد الشكل الجديد من المعينات المستضدية. وفي أحيان أخرى يُحوِّل الجهاز المناعي انتباهه نحو مُعيِّن مستضدي آخر لا يمتلك أصلا القدرة نفسها على التحريض المناعي. وقد يتكرر هذا التحول في التوجهات مرات عديدة مؤديا لظهور صورة معقدة جدا، تتموج فيها الغلبة النسبية لنسائل الخلايا التائية باستمرار. وهكذا فإن ظهور شكل جديد غير ملحوظ من معين مستضدي، سيثير المشكلات بطريقتين على الأقل. فإضافة إلى إنقاص فعالية الهجوم على الشكل الڤيروسي الجديد، فإنه قد يُحرِّض الجهاز المناعي على تحويل جهوده نحو أنواع أخرى من المعينات المستضدية التي لا تمتلك القدرة نفسها على التحريض.

إن الصورة العامة التي أعطتها نماذج المحاكاة الجديدة تتلخص في أن التنوّع في المعيِّنات المستضدية سيؤدي إلى تأرجح الاستجابات المناعية مع استهداف المعينات الأضعف فالأضعف. ويؤدي هذا التحول إلى ارتفاع في مستويات الڤيروس HIV وبالتالي إلى الإسراع بقتل الخلايا المساعدة والبلاعم وتناقص السيطرة على كامل الجمهرة الڤيروسية. وبتعبير آخر يؤدي التغاير الڤيروسي إلى دفع مسيرة المرض. ويمكن أيضا تطبيق نماذج المحاكاة متعددة المعينات المستضدية على الاستجابات الضدية antibody responses.

أفكار حول العلاج
إن من لا يعرفون النتائج التي توصلنا إليها قد يظنون أن المرضى الذين يستجيبون لعديد من المعيِّنات المستضدية المختلفة سيكونون أكثر قدرة على السيطرة على جمهرة الڤيروسات. فالڤيروس الذي ينجو من إحدى نسائل الخلايا المناعية يُحتمل أن لا يُفلت من ملاحظة نَسيلة أخرى. إلا أن نماذجنا الحاسوبية تتنبأ بأنه في حالة العدوى بالڤيروس HIV، فإن الاستجابة المناعية للمعينات المستضدية المتعددة يمكن أن تكون علامة سيئة ـ حيث تكون مؤشرا على أن أنواعا مهمة من المعينات المستضدية ربما تكون قد تطفَّرت بشكل غير ملحوظ. وتوضّح نماذج المحاكاة أن المرضى الذين يتعرف جهازُهم المناعي واحدًا أو أكثر من المعينات المستضدية بشكل ثابت سيتمكنون من السيطرة على الڤيروس على نحو أفضل من أقرانهم الذين يستجيب جهازهم المناعي إلى عدد كبير من هذه المعينات. وتؤيد هذا الرأي إحدى النتائج التي توصلت إليها دراسة المستضدات HLA التي سبق عرضها. فقد لوحظ أن المريضيْن اللذين أظهرا تماوجا (تقلبًا) في الاستجابة المناعية، وصلا إلى مرحلة الإيدز بشكل أسرع من أولئك الذين أظهروا استجابة ثابتة لمعيّن مستضدي واحد. لكن الدراسة المذكورة شملت عددا قليلا من المرضى لا يكفي للتوصل إلى استنتاجات موثوقة.

وإذا كانت هذه النماذج تصوّر مسار العدوى بالڤيروس HIV بدقة، فسوف تكون لنتائجها مضامين في مجال تطوير اللقاحات (للوقاية أو العلاج) وأيضا لتطوير أدوية كيماوية ضد المرض. ففي مجال اللقاحات قد يؤدي تحفيز الاستجابة المناعية لعدة أشكال من المعينات المستضدية إلى نتيجة عكسية. وعلى كل حال فإن مثل هذا التحفيز يُحتمل أن يؤدي إلى نشوء تنافس غير مرغوب فيما بين القوى المناعية. وقد يكون من الأفضل تحفيز الاستجابة الموجهة نحو معين مستضدي محفوظ واحد، حتى ولو لم يكن من اليسير استعرافه. ومن شأن هذه الاستجابة أن تؤدي بشكل مثاليّ إلى سيطرة مستمرة على الڤيروس. ولكن الصعوبة بطبيعة الحال تكمن في إمكان تعرف المعينات المستضدية المحفوظة ومعرفة الطريقة المثلى لتوليدها.

وهناك دلالة أخرى تسترعي الانتباه، وهي أن الڤيروس يتنسّخ بسرعة وباستمرار خلال جميع مراحل العدوى. وقد دفعت هذه الملاحظة كثيرًا من الأطباء إلى استنتاج أن الكيماويات التي تؤدي إلى إيقاف تنسّخ الڤيروس ستعطي أفضل النتائج عند استعمالها باكرا ما أمكن، أي قبل أن يتمكن الڤيروس من التكاثر بدرجة مفرطة. وقد يكون العلاج بتوليفة من الأدوية أكثر فاعلية من استعمال دواء واحد، لأنه حتى لو أنتج الڤيروس جمهرة طافرة لا تتأثر بأحد الأدوية، فإن الأدوية الأخرى يمكن أن تظل فعالة. وعن طريق تثبيط معدل تنسّخ الڤيروس، ستمكّن هذه الاستراتيجيات من إبطاء سرعة إنتاج الطافرات وبالتالي ستحد من التنوع الڤيروسي. وتقترح نماذجنا الحاسوبية أيضا أن إنقاص مستويات الڤيروس والحد من تغايره سيساعدان مناعة الجسم الطبيعية على احتواء الڤيروس.

نظرة شاملة لديْنَمِيّات الڤيروس HIV
تُظهر النتائج السريرية والرياضياتية التي تم جمعها، أنه إضافة إلى تنسّخ الڤيروس HIV بوفرة في جسم المُعدى (المخموج)، فإنه يتطفر بصورة متكررة مؤديا إلى إحداث تغاير كبير في الجمهرة الڤيروسية. وتيسر هذه الخصائص تطورَ الڤيروس استجابةً للتهديدات التي يواجهها خلال مسار العدوى. وتظهر تبعا لذلك طافرات ڤيروسية تستطيع إلى حد ما تجنب الهجوم المناعي عليها إلى أن يستجمع الجهاز المناعي قواه ليواجه هذه الأشكال الجديدة ـ وفي هذه الأثناء تبدأ طافرات هاربة جديدة في الظهور والتكاثر. وهكذا يتكرر تبادل ميزان القوى بين الجهاز المناعي والڤيروس ذهابا وإيابا مدة من الزمن.

لكن هذه العملية لا تستمر إلى ما لانهاية، لأن ظهور التغاير الڤيروسي ـ فيما يبدو ـ يقلب الميزان لصالح الڤيروس في النهاية. ويعمل التغاير في صالح الڤيروس لأن ظهور أشكال ڤيروسية مختلفة سيتسبب في إرباك الجهاز المناعي للمريض، فيصبح أقل كفاءة وبالتالي يسمح لجمهرة الڤيروسات بالنمو وقتل المزيد من الخلايا المساعدة.

وبطبيعة الحال يؤدي تناقص الخلايا المساعدة إلى تناقص فعالية التائيات القاتلة والبائيات B cells، التي لا تعمل بكفاءة إلا إذا حفزتها البروتينات التي تُنتجها الخلايا المساعدة. وحالما يصبح هذان النوعان من الخلايا أقل فعالية، تبدأ دوامة قاتلة من الأحداث، حيث تستمر معدلات الڤيروس في الارتفاع ويتزايد هلاك الخلايا المساعدة وتنخفض الفعالية الكلية للجهاز المناعي.

وهكذا يقود توليد الطافرات الڤيروسية إلى تناقص مستمر في فعالية الجهاز المناعي. وعند مرحلة معينة يبلغ التغاير الڤيروسي حدًّا يتعذر معه على الجهاز المناعي أن يتعامل معه، وبالتالي يُفلت الڤيروس HIV تماما من السيطرة. وفي حين أن كميات الڤيروس تستمر بالتزايد، يتسارع هلاك الخلايا المساعدة ويجتاز المريض العتبة المؤدية إلى حالة الإيدز، وفي النهاية ينهار الجهاز المناعي. باختصار، يبدو أن السيناريو التطوري يستطيع أن يفسر إلى حد بعيد لماذا تتقدم الإصابة بعدوى الڤيروس HIV ببطء، وإن كانت في جميع الحالات ـ أو على الأقل في معظمها ـ تُفضي إلى تدمير الجهاز المناعي في النهاية.


 المؤلفان
Martin A. Nowak - Andrew J. McMichael
يعملان معا في جامعة أكسفورد؛ حيث نوڤاك زميل باحث رئيسي لدى Wellcome Trust . وقد حصل على الدكتوراه من جامعة ڤيينا، حيث درس الكيمياء الحيوية والرياضيات. وعلى الرغم من تركيزه على التآثرات المتبادلة بين الڤيروس HIV والجهاز المناعي، فقد استطاع تطوير الكثير من النماذج الرياضياتية المتعلقة ببيولوجيا التطور. أما مك مايكل الذي انشدّ إلى العلوم بعد قراءته في الستينيات لعدد من مقالات مجلة «ساينتفيك أمريكان» حول الدنا DNA، فهو أستاذ وباحث سريري في علم المناعة في مجلس البحوث الطبية بجامعة أكسفورد، كما يرأس فريق علم المناعة الجزيئي في معهد أكسفورد للطب الجزيئي. وهو كذلك مستشار في شركة سيلتيك وزميل في الجمعية الملكية. ومما يذكر أن مك مايكل تسلق أعلى جبل في النمسا، كما تسلق نوڤاك أعلى جبل في إنگلترا.


مراجع للاستزادة 
ANTIGENIC DIVERSITY THRESHOLDS AND THE DEVELOPMENT OF AIDS. M. A. Nowak, R. M. Anderson, A. R. McLean, T. F. W. Wolfs, J. Goudsmit and R. M. May in .Science, Vol. 254, pages 963-969; November 15, 1991.
HUMAN IMMUNOllEF1C1ENCY VIRUS: GENETIC VARIATION THAT CAN ESCAPE CYTOTOXIC T CELL RECOGNITION. R. E. Phillips et al. in Nature, Vol. 354, No. 6353, pages 453-459; December 12, 1991.
How DOES HIV CAUSE AIDS? Robin A. Weiss in Science, Vol. 260, pages 1273-1279; May 28, 1993.
VIRAL QUASISPECIES. Manfred Eigen in Scientific American, Vol. 269, No. 1, pages 42-49;July 1993.
MULTIFACTORIAI. NATURE OF HUMAN IMMUNODEFICIENCY VIRUS DISEASE: IMPLICATIONS FOR THERAPY. Anthony S. Fauci in Science, Vol. 262, pages 1011-1018; November 12, 1993.
ANTIGENIC OSCILLATIONS AND SHIFTING IMMUNODOMINANCE IN HIV-1 INFECTIONS. M. A. Nowak, R. M. May, R. E. Phillips, S. Rowland-Jones, D. Lalloo, S. McAdam, P. Klenerman, B. Koppe, K. Sigmund, C. R. M. Bangham and A. J. McMichael in Nature, Vol. 375, pages 606-611; June 15, 1995.
Scientific American, August 1995

0 التعليقات: